الصراع على "الإعاشات" في اليمن: معركة الإصلاح الاقتصادي بين بن بريك والعليمي تكشف عن شبكة المصالح السياسية

تمهيد: نظام الإعاشات.. إرث الفساد الذي يستنزف اقتصاد اليمن
في مشهد يعكس عمق المعركة الاقتصادية في اليمن، يهدد رئيس الوزراء سالم بن بريك بالاستقالة من منصبه احتجاجاً على استمرار صرف مبالغ طائلة تحت بند "الإعاشات" لشخصيات سياسية ونافذين بينما يعيش ملايين اليمنيين على حافة المجاعة. هذه المعركة التي خرجت إلى العلن مؤخراً كشفت عن شبكة معقدة من المصالح التي استشرت في مؤسسات الدولة خلال سنوات الحرب الطويلة، حيث أصبحت "الإعاشات" تمثل أحد أبرز أوجه الفساد المالي المنظم الذي يقوض أي جهود حقيقية للإصلاح الاقتصادي وإنقاذ البلاد من الانهيار الشامل.
نظام الإعاشات من النشوء إلى الأزمة…جذور النظام وتطوره الاستثنائي
تعود جذور نظام "الإعاشات" إلى فترة ما بعد فرار الرئيس الأسبق عبدربه منصور هادي إلى السعودية، حيث شهدت الفترة التي تلت ذلك تضخماً غير مسبوق في كشوفات المستفيدين من هذا النظام. وبحسب التقارير المحلية، تم إدراج الآلاف من الأسماء في هذه الكشوفات، معظمهم من أقارب مسؤولي السلطات المتعاقبة وأعضاء المجلس الرئاسي، دون وجود مبررات قانونية أو وظيفية حقيقية لهذه الصرفيات .
وقد بلغ الفرق بين الواقع والإدعاء ذروته عندما تبين أن غالبية المستفيدين من هذه الإعاشات لا علاقة لهم بالعمل السياسي أو الحكومي، بل هم من "أبناء وبنات وزوجات مسؤولي الحكومات المتعاقبة وأعضاء الرئاسي" كما تصفهم التقارير الإخبارية . وقد تحول هذا النظام من كونه آلية طارئة لدعم الكوادر الحكومية خلال الأزمة إلى شبكة فساد ممنهج تستنزف موارد الدولة المحدودة أصلاً.
الكلفة الاقتصادية والإنسانية
يستهلك نظام الإعاشات موارد مالية طائلة تصل إلى 110 مليون دولار شهرياً وفق المشاع، وهي أموال تُصرَف أساساً من حساب النفط والغاز اليمني في البنك الأهلي السعودي . هذه الأموال كان من الممكن أن تُوجه لإنقاذ ملايين اليمنيين من براثن المجاعة وسوء التغذية الذي تفاقم بسبب الحرب المستمرة منذ سنوات.
ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فإن أكثر من 18.2 مليون يمني يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة للبقاء على قيد الحياة، بينما يعيش نصف السكان في ظروف إنسانية متدهورة نتيجة تدمير البنية التحتية وانهيار الخدمات الأساسية . في هذا السياق، فإن استمرار صرف ملايين الدولارات لشخصيات غير مستحقة يعيش معظمها خارج اليمن يشكل ضربة قاصمة لأي جهود إصلاحية حقيقية.
بن بريك وتولي رئاسة الوزراء..حزمة الإصلاحات والتحسن الاقتصادي
الإجراءات السيادية لإنقاذ العملة
عندما تسلم سالم بن بريك مهام منصبه في مايو 2025، كان الاقتصاد اليمني يعاني من أسوأ أزمة في تاريخه الحديث، حيث وصل سعر الدولار إلى 2899 ريالاً يمنياً، بينما تجاوز التضخم 80% في أسعار المواد الغذائية الأساسية . وفي مواجهة هذا الانهيار المتسارع، أطلق بن بريك حزمة من الإصلاحات الجذرية التي استهدفت بشكل أساسي وقف نزيف العملة الوطنية وإعادة الثقة بالريال اليمني.
ومن أبرز هذه الإجراءات: وقف أي إصدار نقدي جديد، وإغلاق شركات الصرافة المخالفة، وتفعيل أدوات الدين العام، وتشديد الرقابة على السوق المصرفي، ورفع كفاءة تحصيل الإيرادات من المنافذ الجمركية والموانئ . وقد انعكست هذه الإجراءات سريعاً على سعر الصرف، حيث تراجع سعر الدولار من 2899 ريالاً إلى 1617 ريالاً، مما أعطى الأسواق إشارة قوية بجدية الحكومة في حماية العملة الوطنية.
إصلاحات قطاع الطاقة والرقابة على الأسواق
إلى جانب الإجراءات النقدية، تحرك بن بريك سريعاً لمعالجة أزمة الكهرباء المزمنة عبر ضخ كميات إسعافية من الوقود للمحطات وتوفير شحنات إضافية بدعم خارجي، مع توجيه خطط لتنويع مصادر الطاقة. أما في ملف الغاز المنزلي، فتم رفع الحصص المخصصة للمحافظات وإنشاء مخزون استراتيجي وتشديد الرقابة لمنع الاحتكار .
كما أولت الحكومة اهتماماً خاصاً للسوق المحلية وأسعار السلع الأساسية، حيث أطلقت حملات رقابية مكثفة على الأسواق، وأصدرت نشرات شبه يومية للأسعار، وضبطت أي ممارسات احتكارية. وفي خطوة نوعية، أصدر مجلس الوزراء في 12 أغسطس 2025 قراراً يحظر استخدام العملات الأجنبية بديلاً عن الريال اليمني في المعاملات التجارية والخدمية، مؤكداً التزامه بفرض السيادة النقدية .
الصراع على ملف الإعاشات..معركة الإصلاح ضد شبكات المصالح
المواجهة المباشرة بين بن بريك والعليمي
كشفت التسريبات الإعلامية أن الخلاف بين بن بريك والعليمي بلغ ذروته عندما هدد رئيس الوزراء بالاستقالة من منصبه بسبب رفض العليمي توجهه لإلغاء الإعاشات بالدولار . وكان بن بريك قد قدم "مصفوفة إصلاحات اقتصادية" تتضمن عدم صرف مبلغ بالدولار لمن يسمون بند الإعاشة الذي يدفع إلى "لوبيهات ومراكز إعلامية ومراكز دراسات مقابل تبيض دور مجلس القيادة إعلاميا وسياسياً" وفق ناشطين.
من جهته، حاول مكتب العليمي تقليل حجم الخلاف عبر تصريحات لمصادر رئاسية أكدت أن "رئيس الوزراء سالم بن بريك لا توجد بينه وبين فخامة الرئيس رشاد العليمي أي خلافات، بل هناك ضوء أخضر من مجلس القيادة للعمل في ملف الإصلاحات الاقتصادية" . إلا أن مصادر أخرى أكدت أن الخلافات حادة ووصلت إلى حد التهديد بالاستقالة فعلياً.
الحملات الإعلامية والتأييد الشعبي
شهدت وسائل التواصل الاجتماعي حملات دعم واسعة لموقف بن بريك من ملف الإعاشات، حيث كتب الناشط أحمد ماهر في منشور على فيسبوك: "ادعموا تحركات رئيس الوزراء وثقوا بالله ثم به خيراً ولا تنشروا أي اشاعات وتأكدوا أن الخير قادم وهنالك قرارات سوف تصدر انتظروا الخير" .
كما ظهرت صفحات وهمية منتحلة لشخص رئيس الوزراء أو نجله في محاولة للتأثير على الرأي العام، لكنها وُصفت من قبل المقربين من بن بريك بأنها "مزورة" وأي قرار حقيقي لرئيس الوزراء سينشر في صفحته الرسمية أو عبر الأطر الرسمية . من جهة أخرى، هاجم ناشطون ما سموه "التقاعس" من قبل العليمي في دعم الإصلاحات الاقتصادية، حيث كتب أحدهم: "طرد العليمي مطلب" معتبراً أنه "فاسد" ويقف عائقاً أمام الإصلاح .
الوساطة لحل الأزمة..الدور الدبلوماسي للسعودية
دخلت السعودية على خط الأزمة بين بن بريك والعليمي عبر وساطة دبلوماسية قادها السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، الذي تمكن من إنهاء الخلافات حول "الإعاشة" بشكل مؤقت . وقد أقر آل جابر تشكيل لجنة مشتركة لمراجعة قوائم المستفيدين من نظام الإعاشات، في محاولة لإيجاد حل توافقي للأزمة التي هددت باستقالة رئيس الوزراء وتعطيل الحكومة بالكامل.
وجاء هذا التدخل السعودي في إطار الدور الإقليمي*ك الذي تلعبه الرياض كداعم رئيسي للحكومة اليمنية الشرعية، وكممول أساسي للمساعدات الإنسانية والاقتصادية في اليمن. وقد دفعت المقترحات السعودية برئيس الحكومة للعودة إلى عدن والتراجع عن خطوة الاستقالة، على أمل أن تنجح اللجنة المشكلة في إيجاد حلول مقبولة للأزمة .
حدود التدخل وآفاق الحل
رغم النجاح المؤقت للوساطة السعودية في منع تفجر الأزمة، إلا أن الجذور الهيكلية للمشكلة لا تزال قائمة، حيث أن نظام الإعاشات يمثل جزءاً من شبكة مصالح كبيرة ومتشعبة يصعب اقتلاعها. كما أن التوازنات السياسية داخل المجلس الرئاسي والمكونات السياسية المختلفة تجعل من الصعب تبني إصلاحات جذرية قد تمس مصالح بعض الأطراف النافذة.
وكانت تقارير سابقة قد أشارت إلى توترات داخلية في المجلس الرئاسي بعد عودة رئيسه رشاد العليمي من روسيا، حيث انتقدته "المقاومة الوطنية" والمجلس الانتقالي الجنوبي لتجاوز الصلاحيات وإقصاء الشركاء . هذه التوترات تجعل من الصعب تحقيق إجماع حول القضايا الإصلاحية الكبرى مثل ملف الإعاشات، مما يدفع نحو الحلول الترقيعية المؤقتة بدلاً من المعالجات الجذرية وفق مراقبون.
التقشف والتدبير الاقتصادي..لماذا يحظى بن بريك بدعم الشعب؟
في موازنة 2025، تبنت الحكومة اليمنية سياسة تقشفية واضحة تمثلت في تجميد الانتادات في الوظيفة العمومية وعدم تعويض الشغورات، إلا في قطاعات محدودة مثل الدفاع والداخلية والصحة والتربية . كما شملت إجراءات التقشف تخفيض النفقات التشغيلية والرأسمالية إلى الحد الأدنى، ومراجعة الهياكل التنظيمية، واستكمال عملية دمج أو إلغاء المؤسسات غير الضرورية .
ورغم الطبيعة القاسية لسياسات التقشف، إلا أن بن بريك أحسن شرحها للمواطنين كإجراء ضروري لإنقاذ الاقتصاد الوطني من الانهيار التام، وكمقدمة لأي تحسن مستقبلي في الخدمات والمعيشة. وقد لاقت هذه السياسات تفهماً وقبولا شعبيين في ظل الثقة التي يتمتع بها بن بريك مقارنة بمن سبقوه من حكومات.
الدعم الشعبي والرهانات المستقبلية
يتمتع بن بريك بشعبية غير مسبوقة بين اليمنيين مقارنة برؤساء الوزراء السابقين، وذلك بسبب نجاحه في تحقيق تحسن ملموس في سعر الصرف وتحسين إمدادات الكهرباء والغاز نسبياً. وقد امتلأت منصات التواصل الاجتماعي برسائل دعم لرئيس الوزراء وفريقه، وكتب ناشطون أن "ما يحدث اليوم هو بداية معركة اقتصادية حقيقية لاستعادة كرامة المواطن" .
معركة الإصلاح بين السياسة والاقتصاد
تبقى معركة الإصلاح الاقتصادي في اليمن رهينة التوازنات السياسية المعقدة التي تتحكم في مفاصل الدولة والمجتمع. فملف الإعاشات ليس مجرد قضية مالية أو اقتصادية عابرة، بل هو نموذج مصغر لشبكة المصالح الممتدة التي تربط النخب السياسية والعسكرية والميليشيات، والتي تستفيد من استمرار الأزمة وتدهور الاقتصاد.
نجاح بن بريك الجزئي في تحسين أداء العملة وتخفيف حدة الأزمة المعيشية يعد إنجازاً مهماً في ظل الظروف الصعبة، لكنه يبقى إنجازاً هشاً قد يتراجع في أي لحظة إذا لم يتم دعمه بإصلاحات سياسية مؤسسية حقيقية وفق محللون.
ويصف مراقبون أن تدخل السعودية لحل الخلاف بين بن بريك والعليمي، رغم أهميته في منع انهيار الحكومة، يظل حللاً مؤقتاً لا يعالج الأسباب الجذرية للأزمة. فالدول الإقليمية والدولية الداعمة لليمن مطالبة اليوم بدعم الإصلاحات الحقيقية وليس المجرد إدارة الأزمة، لأن استمرار الوضع الراهن يعني مزيداً من المعاناة للإنسان اليمني، ومزيداً من عدم الاستقرار لكل المنطقة.