من المكلا خطة حضرموت التنموية.. بصيص أمل يمني يتحدى إرث الأزمة

لأكثر من عقد من الزمان، ظلت اليمن، البلد الأكثر فقراً في شبه الجزيرة العربية، غارقة في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم، وفقاً لتقارير متلاحقة من الأمم المتحدة والبنك الدولي. شلت الحرب التي اندلعت أواخر عام 2014 عجلة التنمية في كل المحافظات، محولةً البنية التحتية الهشة أصلاً إلى ركام، ومحوّلة مؤشرات التنمية البشرية إلى الخلف بعقود، وخلقت اقتصاداً مشوهاً يعتمد على المساعدات الإنسانية الطارئة لإنقاذ ملايين السكان من المجاعة.
مع عودة الحكومة المعترف بها دولياً إلى عدن وتعيين السيد سالم صالح بن بريك رئيساً للوزراء، بدأت مؤشرات اقتصادية هشة في الظهور، تمثلت في تحسن في قيمة العملة المحلية وانخفاض في أسعار السلع الأساسية. غير أن هذه الحكومة وجدت نفسها أمام جبل من التحديات، فأمامها مهمة إعادة بناء دولة انهارت خدماتها الأساسية بالكامل تقريباً. العجز هائل، والضغط على الخدمات – من كهرباء ومياه وصحة وتعليم – لا يطاق، خاصة مع نزوح مئات الآلاف من السكان من مناطق الصراع إلى مناطق نسبية الاستقرار.
وفي هذا المشهد القاتم، تبرز محافظة حضرموت، العملاق النائم في شرق اليمن. بمساحتها الشاسعة التي تُقدّر بنحو 193 ألف كيلومتر مربع (ما يعادل حوالي 30% من إجمالي مساحة اليمن)، وتعداد سكانها الذي يقترب من 2.5 مليون نسمة، وتميزها الجغرافي الفريد بين ساحل وواد خصيب وصحراء، كانت دائماً تمتلك مقومات أن تكون محركاً اقتصادياً للبلاد. تاريخها العريق في التجارة والهجرة جعل منها جسراً ثقافياً واقتصادياً بين اليمن والعالم. ومع ذلك، لم تكن حضرموت بمنأى عن العاصفة. فبالإضافة إلى تدهور خدماتها الأساسية، وجدت نفسها تستضيف مئات الآلاف من النازحين، مما ضاعف الضغط على مواردها المحدودة ودفع بمعدلات الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية، وهو ما أكدته تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).
في مواجهة هذا الواقع، وفي خطوة تُعدّ هي الأكثر طموحاً على مستوى المحافظات اليمنية منذ بدء الحرب، أطلقت السلطة المحلية في حضرموت رسمياً "الخطة التنموية الاقتصادية والاجتماعية للفترة 2025-2029م". الحدث، الذي عُقد في احد قاعات مدينة المكلا تحت رعاية رئيس الوزراء بن بريك، وحضور محافظ حضرموت مبخوت مبارك بن ماضي، لم يكن مجرد مؤتمر عابر، بل كان بمثابة إعلان عن خارطة طريق مفصلة وطموحة لإنعاش الاقتصاد المحلي وخلق بيئة مستقرة. شارك بالمؤتمر ممثلون عن الدول المانحة الكبرى، وعلى رأسها السعودية والإمارات، ومنظمات الأمم المتحدة، وسفراء دول، في إشارة واضحة إلى الأهمية الدولية التي تُمنح لهذه المبادرة الفريدة.
تحدث رئيس الوزراء بن بريك عبر الاتصال المرئي مؤكداً أن اختيار حضرموت لهذه الخطة "يأتي إدراكاً من الحكومة لأهميتها ومكانتها الاستراتيجية بوصفها تمثل جسرًا للتواصل بين اليمن والإقليم والعالم". ووعد رئيس الوزراء بدعم حكومي كامل "لتوفير التسهيلات اللازمة وحشد الموارد لتحويل الرؤية إلى واقع ملموس"، داعياً أبناء حضرموت إلى الوحدة ووضع الخلافات جانباً، ومحذراً من أن "التنمية لا تتحقق بالفُرقة والانقسام بل بالالتفاف حول مشروع وطني". كما كشف النقاب عن نية الحكومة لعقد "مؤتمر وطني للطاقة" في نوفمبر المقبل لمعالجة واحدة من أكثر أزمات المواطن إيلاماً.
من جانبه، أوضح محافظ حضرموت السيد بن ماضي أن إعداد الخطة تم "بأسس منهجية وعلمية"، مشيراً إلى أنها مرت بأربع مراحل رئيسية شملت جمع البيانات وتحليل التحديات وصولاً إلى الصياغة النهائية. وشدّد على أن الهدف هو "إعداد خطة تنموية تعكس احتياجات المجتمع وتستنهض قواه الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار المعيشي والخدمي".
ولم تكن كلمات الدعم والالتزام حكراً على الجانب اليمني. فقد عبر سفيرا السعودية والإمارات، وممثل الأمم المتحدة في اليمن، عن دعم بلادهم ومؤسساتهم لهذه الخطة، معتبرين إياها "نموذجاً رائعاً لدعم جهود التعافي والتنمية" و"محطة فارقة في مسيرة التنمية". هذا الدعم الدولي ليس معنوياً فحسب، فالسفير السعودي، على سبيل المثال، استعرض أكثر من 265 مشروعاً ومبادرة تنموية أنجزها أو ينجزها البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن في مختلف المحافظات، منها مشاريع حيوية في حضرموت نفسها.
يرى مراقبون اقتصاديون أن خطة حضرموت تمثل اختباراً حقيقياً لنموذج "اللامركزية في إعادة الإعمار" وإمكانية انتقال اليمن من مرحلة الطوارئ الإنسانية إلى بدايات التعافي الاقتصادي المنظم. الدكتور علي الفضلي، الخبير الاقتصادي اليمني، يقول في اتصال: "قوة هذه الخطة تكمن في أنها لم تفرض من الأعلى، بل أعدت محلياً بشراكة مجتمعية واسعة. هذا يضمن ملكيتها المحلية ويزيد من فرص نجاحها". لكنه يحذر في الوقت ذاته: "التحدي الأكبر لن يكون في وضع الخطة، بل في توفير التمويل المستدام وضمان الشفافية في التنفيذ، وبناء قدرات مؤسسية محلية قادرة على إدارة هذا الحلم الطموح".
إذا نجحت حضرموت في تحويل هذه الوثيقة إلى واقع ملموس، فلن تكون قد أنقذت نفسها فحسب، بل ستقدم للنظام اليمني دليلاً عملياً على أن الحلول التنموية المحلية الشاملة والمخطط لها بعناية هي القاطرة الحقيقية لإخراج اليمن من دوامة الأزمة، وربما تكون النموذج الذي تحتذي به باقي المحافظات لكتابة فصل جديد من تاريخ البلاد، فصل يقوم على البناء لا الدمار.