وباء الحصبة يجتاح ساحل حضرموت.. أرقام مخيفة وأطفال يدفعون ثمن "الجهل الصحي"

أجساد صغيرة تصارع الحُمّى، ووجوه شاحبة يكسوها الطفح الجلدي والجفاف، تصاحبها أصوات أنين الوجع.. هكذا يبدو المشهد داخل مستشفيات الأمومة والطفولة في مدينة المكلا بمحافظة حضرموت، حيث يتفشى مرض الحصبة بوتيرة متسارعة تدق ناقوس الخطر.
هذه الصورة المؤلمة تجسّد الواقع المرير الذي يعيشه الأطفال في مديريات ساحل حضرموت منذ مطلع العام الحالي، وسط تفشي وباء الحصبة الذي اجتاح المحافظة بسرعة مثيرة للقلق، حيث تكشف الإحصائيات عن أرقام مقلقة تحذّر من خطورة الموقف وتستدعي تحركاً عاجلاً.
*-المؤشرات الإحصائية تكشف حجم الكارثة الوبائية*
بحسب آخر البيانات الصادرة عن دائرة الترصد الوبائي في ساحل حضرموت، من بداية يناير حتى 14 سبتمبر 2025، تم تسجيل 1,090 حالة مشتبه بها من الأمراض الوبائية الثلاث: الحصبة، حمى الضنك، والكوليرا؛ ومن بينها 512 حالة اشتباه بالحصبة، مع 53 حالة مؤكدة مخبرياً، سجلت منها خمسة حالات وفاة اثنتان في المكلا، واثنتان في مديرية الديس، وحالة واحدة بين الوافدين إلى المحافظة، وتتصدر مدينة المكلا القائمة بـ161 حالة، تليها مديريات الديس، غيل باوزير، والشحر.
الرقم الأكثر إثارة للصدمة، أن نسبة المصابين بالحُصبة الذين لم يتلقّوا أي جرعة من اللقاح بلغت حوالي 69٪ من إجمالي المصابين، مما يعني أن سبعة من كل عشرة أطفال مصابين كان من الممكن وقايتهم من هذا الوباء.
مديرة دائرة الترصد الوبائي بساحل حضرموت، الدكتورة رولا باضريس، ترى أن امتناع بعض الأهالي عن تطعيم أطفالهم كان من أبرز أسباب انتشار العدوى بسرعة. حيث تقول في حديثها لمنصة حضرموت للصحافة:
“الحصبة مرض معدٍ وسريع الانتشار، ومع غياب المناعة المجتمعية بسبب ضعف نسب التطعيم، فإن أي إصابة واحدة تتحول إلى بؤرة عدوى لعشرات الأطفال، وهو ما نرصده حاليًا في المديريات الساحل”.
وتضيف باضريس أن الدائرة تواصل حملات التوعية وحثّ الأسر على الالتزام بالتطعيمات الدورية، حيث تقول:
"برغم أن 99% من الحالات تماثلت للشفاء، إلا أن دائرة الخطر لم تُغلق بعد، كما أن الوقاية عبر اللقاح “تظل السبيل الأنجع لإنقاذ حياة الأطفال”.
*-مستشفيات على حافة الانهيار*
النتيجة المباشرة لهذا التفشي هي دفع النظام الصحي في المحافظة إلى حافة الانهيار، الغرف والأسرة امتلأت بالحالات، والأطباء والممرضون يعملون تحت وطأة إرهاق هائل، وموارد محدودة تُستهلك بسرعة.
داخل المستشفى الجامعي بمدينة المكلا،يرقد الأطفال بأجساد نحيلة تغطيها بقع حمراء، فيما يحاول الأطباء السيطرة على المضاعفات وسط محدودية الإمكانيات.
يقول مدير المستشفى الجامعي وأستاذ طب الأطفال، الدكتور عبد الحكيم لرضي:
“نستقبل من حالتين إلى أربع حالات مصابة أسبوعياً، وسجلنا 39 حالة مؤكدة منذ مطلع العام، يعاني كثير منها من مضاعفات مثل التهاب الرئة وسوء التغذية؛ الإمكانيات المتاحة لا تكفي، وهناك حاجة ماسة إلى دعم عاجل للقطاع الصحي”
ويشير لرضي إلى أن استمرار تفشي المرض دون تدخل فعال قد يضاعف الوفيات، خصوصًا بين الأطفال الذين يعانون من أمراض مزمنة أو نقص مناعة.
*-الجهل الصحي.. القاتل الصامت*
في ضوء هذه المعطيات الميدانية، يبرز "الجهل الصحي" كأخطر الأسلحة الفتاكة التي تواجهها الحملات الصحية في محافظة حضرموت، وخاصة في الأرياف فهناك شريحة واسعة من الأهالي امتنعوا عن تحصين أبنائهم استجابة لمعلومات مغلوطة وشائعات متداولة تنتشر بينهم كالنار في الهشيم.
سليمان محمد، والد أحد الأطفال المصابين، يروي لـ”منصة حضرموت للصحافة”: “أصيب ابني بالعدوى بعد مخالطته لطفل آخر لم يتلقّ أي تطعيم، لم نكن ندرك خطورة الأمر حتى نقلناه إلى المستشفى وهو في حالة إعياء شديد”
ويضيف: “رفض بعض الأهالي تطعيم أطفالهم يحوّلهم إلى أهداف سهلة أمام فيروس الحصبة القاتل، ويضاعف خطر تفشي المرض بين الأطفال الأبرياء”.
*-الحصبة تهدد البلاد.. التطعيم خط الدفاع الأخير*
وباء الحصبة لم يقتصر على حضرموت فقط، بل شهدت عدة محافظات يمنية خلال الأشهر الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الإصابة، في ظل نظام صحي متهالك بفعل الحرب المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات.
وسط هذه الصورة القاتمة، يظل التطعيم الوسيلة الأنجع لإنقاذ حياة الأطفال، كما تؤكد شهادات الأطباء والمسؤولين الصحيين، حيث أصبحت الحملات التوعوية التي تشرح فوائد التطعيم وتفند المخاوف الشائعة ضرورة ملحة لا تقل أهمية عن توفير اللقاحات نفسها.
ويبقى الرهان الأكبر على تغيير الوعي المجتمعي، فالحصبة ليست مجرد وباء، بل مرآة لمدى استعداد المجتمع لحماية أطفاله من موت يمكن تفاديه بلقاح بسيط.