اغتيال كادر حكومي: ما الذي يحدث في تعز؟

استفاقت تعز، المدينة المحاصرة منذ سنوات، على خبرٍ تجاوز في أثره كل جراحها السابقة: اغتيال الأستاذة افتهان المشهري، مديرة صندوق النظافة والتحسين بالمحافظة. المرأة التي حملت المكنسة رمزاً للنزاهة والإصلاح في أحد أكثر المرافق تعقيداً ، سقطت برصاص مجهولين وهي في سيارتها عند جولة سنان، وفق ما أفادت مصادر محلية. الرصاصات التي أودت بحياتها فجّرت في الشارع سؤالاً أكبر: من يملك حق تحويل نساء الخدمة العامة إلى أهداف في وضح النهار؟
تحذيرات مكتومة وانفجار الغضب
الوثائق المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها مذكرة رسمية لمحافظ تعز نبيل شمسان مؤرخة في 18 أغسطس/آب الماضي، كشفت أن المشهري سبق أن طالبت بحمايتها بعد تهديدات مباشرة من المدعو محمد صادق حميد القاسم الذي اقتحم مقر الصندوق وهددها بالتصفية. المذكرة طالبت مدير الشرطة بسرعة ضبط المتهم وتوفير الحماية لمقر الإدارة، غير أن هذه التحذيرات لم تُترجم إلى إجراءات ملموسة.
الناشطة علا السقاف صرحت لوسيلة اخبارية بأن «افتهان ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل التخاذل الموجود، القاتل الحقيقي هو المتواطئ بالصمت قبل من ضغط الزناد»، مؤكدة أن تعز «ليست محاصرة من الحوثيين فحسب، بل من الداخل أيضاً».
ردود فعل الشارع والاعتصام النسائي
في اليوم نفسه، أعلن عمال وموظفو صندوق النظافة – بحسب بيان نقلته وسائل إعلام محلية – إضراباً شاملاً وتعليق أعمالهم حتى القبض على منفذي الجريمة والكشف عن ملابساتها. البيان حمّل السلطة المحلية والأجهزة الأمنية المسؤولية الكاملة عن حماية العاملين، واعتبر اغتيال المشهري «خسارة كبيرة لتعز».
من جهتها، قالت الناشطة داليا محمد إن نساء تعز بدأن خطوات لتنفيذ اعتصام مفتوح «للضغط على أجهزة الدولة للقيام بواجبها»، معتبرة أن استهداف المشهري «هزّ أركان الدولة وأرسل رسالة تهديد لكل امرأة تعمل في الشأن العام».
جريمة كسرت أعرافاً راسخة
في اليمن، حتى أكثر الحروب قسوة كانت تحكمها قاعدة عرفية صارمة تحرِّم الاعتداء على النساء وتعتبره خرقاً للشرف القبلي والديني. اغتيال مسؤولة حكومية في وضح النهار شكّل صدمة تجاوزت حدود المدينة، إذ بدا كأنه كسرٌ لقيم وأعراف متوارثة اعتادت أن تكون صمّام أمان يقي الأضعف من بطش السلاح. هذا الخرق العلني وضع المجتمع أمام سؤال خطير: إذا سقطت حرمة المرأة، فماذا تبقى من الضوابط التي كانت تحدّ من الانفلات؟
الجريمة كذلك أصابت النسيج الاجتماعي في الصميم. تعز، التي لطالما تفاخر أهلها بمدنيتهم وانفتاحهم، وجدت نفسها أمام حادثة تهدّد صورتها التاريخية كمركز للحركة الوطنية والثقافية. استهداف امرأة في موقع مسؤولية عامة فتح جرحاً نفسياً عميقاً لدى سكان المدينة، خصوصاً النساء اللواتي ينظرن اليوم إلى العمل العام بوصفه مخاطرة قد تكلّف حياتهن في غياب حماية الدولة والمجتمع.
وعلى المستوى السياسي والأمني، اغتيال افتهان المشهري كشف مدى تفكك أدوات الردع لدى السلطات المحلية، وأظهر، وفق مراقبين، أن النزاع في تعز لم يعد صراعاً بين أطراف مسلحة فحسب، بل حرباً على القيم التي تمثلها شخصيات مدنية ونزيهة. هذا الانحدار يضع الأجهزة الأمنية أمام امتحان مزدوج: إعادة فرض القانون، واستعادة ثقة مجتمع صُدم بأن حتى الأعراف التي تحكم أكثر النزاعات حدة لم تعد تردع القتلة
تحركات متأخرة وتوجيهات رئاسية
اللجنة الأمنية بالمحافظة عقدت اجتماعاً طارئاً برئاسة وكيل أول المحافظة عبدالقوي المخلافي، وأقرت – وفق بيان رسمي – حملة أمنية لتعقب الجناة على رأسهم المتهم محمد صادق الملقب بـ«الباشق» بعد تحديد هوياتهم بالكامل، وأصدرت تعميمات لقادة الكتائب العسكرية للتعاون في عمليات الملاحقة وفق المتداول في مواقع التواصل الاجتماعي أشار إلى توقيف اثنين من أولياء أمور بعض المتورطين في الجريمة ضمن الحملة الأمنية.
رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي، من جانبه، أعرب – بحسب وكالة «سبأ» – عن بالغ حزنه وتعازيه لأسرة الشهيدة، ووجّه الأجهزة الأمنية والعسكرية باتخاذ كافة الإجراءات لملاحقة الجناة وتقديمهم إلى محاكمة عاجلة، والاستمرار في تنفيذ الإجراءات الأمنية للقضاء على الإرهاب بكافة أشكاله.
مدينة تبحث عن العدالة
اغتيال افتهان المشهري لم يكن حادثاً معزولاً في مدينة أنهكتها الحروب والحصارات، بل حلقة في سلسلة استهداف لموظفين وناشطين حاولوا انتشال تعز من أزماتها. ورغم التحركات الرسمية، يبقى الشارع في انتظار ترجمة الوعود إلى عدالة فعلية حتى لا تتحول المدينة إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، وتبقى دماء النساء دليلاً على انهيار الأمن وتراجع القيم وفق المواطن عارف توفيق